مما لا شك فيه أن الأشخاص الذين تفوق أعمارهم خمسين عاماً في المملكة المتحدة نشؤوا وترعرعوا في بلد مسيحي، فقد كان البريطانيون يتبنون كثيراً القيم والتقاليد المسيحية في الماضي. غير أن أحد أهم التغيرات التي حدثت في حياتنا، وعلى نحو ربما فاجأنا جميعاً، هو تراجع المسيحية في المملكة المتحدة. والواقع أن الرموز ما زالت قائمة وموجودة، وفي مقدمتها الكنيسة الرسمية التي ترأسها الملكة، ووجود كبيري الأساقفة، وأربعة وعشرين من "اللوردات الروحانيين" في مجلس اللوردات... غير أنه يمكن القول، وبكل صدق، إن المملكة المتحدة في عام 2008 صارت أمة علمانية إلى حد كبير. في الثامن من شهر مايو الجاري، أثارت "روث جليدهيل"، المراسلة الصحفية القديرة وحسنة الإطلاع المتخصصة في الشؤون الدينية في صحيفة "التايمز"، ذلك الموضوع على نحو صادم حين كتبت تقول: "إن الذهاب إلى الكنيسة في بريطانيا يشهد تراجعاً سريعاً جداً إلى درجة أن الأشخاص الذين يرتادون الكنسية بشكل منتظم سيصبحون أقل من أولئك الذين يذهبون إلى المساجد في غضون جيل...". وتابعت "جليدهيل" قائلة: "إن التراجع من الـ4 ملايين شخص الذين يذهبون حالياً إلى الكنيسة مرة على الأقل في الشهر، يعني أن كنيسة انجلترا والكاثوليكية والطوائف المسيحية الأخرى، ستصبح غير قادرة على الاستمرار من الناحية المالية، حيث ستؤدي قلة الأموال التي يتم جمعها في الكنيسة من أجل دعم البنية التحتية المسيحية، مثل صيانة الكنيسة ودفع رواتب القساوسة ومعاشاتهم، إلى إغلاق الكنائس، هذا بموازاة مع موت رعاة الكنائس الذين يشيخون". غير أنه لا بد أن أشير هنا إلى أن كنيسة انجلترا تتوفر مع ذلك على استثمارات معتبرة. لكن المراسلة الصحفية القديرة تضيف قائلة: "بالمقابل، فإن عدد المسلمين المتدينين النشطين سيرتفع من نحو مليون شخص اليوم إلى 1.96 مليون شخص عام 2035". مقال "روث جليدهيل" كان مبنياً على "التيارات الدينية"، وهو عبارة عن تحليل إحصائي شامل للدين في المملكة المتحدة من إعداد منظمة "البحث المسيحي". هذا التحقيق الذي شمل إحصاءً للكنائس قبل ثلاث سنوات، يأخذ في عين الاعتبار العضوية والحضور في كل الهيئات الدينية الموجودة في البلاد. وحسب الدراسة، فقد شمل التراجع المسجل في معدلات حضور الكنيسة كلاً من انجلترا وويلز وسكوتلندا، في حين عرفت ايرلندا الشمالية ارتفاعاً طفيفاً في عدد المرتادين، ويرجع السبب في ذلك إلى حركة "البنتكوستل"، إضافة إلى الهجرة من الكرايبي التي تعد أيضاً عاملاً مساعداً. كما ساهم العمال الوافدون من أوروبا الشرقية، وبخاصة بولندا، في رفع عدد مرتادي الكنسية الكاثوليكية. وهو ما حدث في سكوتلندا، فإذا كان كثير من القساوسة الكاثوليك في سكوتلندا خلال السنوات الماضية ينحدرون من ايرلندا، فهناك اليوم زيادة في عدد القساوسة البولنديين. بالمقابل، فإن أتباع الكنيستين الميتودية والمشيخية يواجهون تراجعاً حاداً؛ حيث تفوق أعمار الكثيرين من رعاة هاتين الكنيستين 65 عاماً. "التيارات الدينية" كانت واضحة: "السبب الرئيسي للتراجع المسجل في معدلات الذهاب إلى الكنيسة هو بكل بساطة أن الناس يموتون" -مقابل احتمال صعود بعض المجموعات الأصغر- حيث تتوقع منظمة "البحث المسيحي" أن يتراجع عدد أتباع الكنيسة الميتودية الذين يذهبون إلى الكنيسة في بريطانيا بحلول عام 2050 إلى نحو 3600 شخص فقط، هذا إلى جانب تراجع من يذهبون إلى الكنيسة من الأنجليكانيين إلى 87800 شخص في الفترة نفسها، و101700 بالنسبة للكاثوليك. البروفيسور "ديفيد فواز" من "معهد التغيير الاجتماعي" التابع لجامعة مانشيستر، يضع أصبعه على الجرح من خلال تفسيره للسبب الأساسي وراء التراجع في المسيحية، وذلك حين يقول: "إن الصعوبة تكمن في الحفاظ على الأطفال الذين لديهم آباء يذهبون إلى الكنيسة. فطالما أن الذهاب إلى الكنيسة شيء يجعلك محط سخرية، وطالما أن ثمة وصمة عار اجتماعية مرتبطة بالشاب الذي يذهب إلى الكنيسة، فسيكون من الصعب وقف هذا التيار". وبالمقابل، يرى "فواز" أن الشباب المسلم في بريطانيا في وضع مختلف جداً حيث يقول: "أن تكون شخصاً متديناً، طريقة لتُظهر أنك مختلف وأنك فخور بإرثك. وإحدى الطرق التي يؤكد بها الشباب المسلم هويتهم هي عبر تدينهم والتزامهم بشكل أقوى من آبائهم". ما هو رد فعل الحكومة البريطانية على هذا البحث؟ أحد الردود الرسمية صدر عن "هيزل بليرز"، وزيرة الجاليات التي قالت: "سوف ندرس هذه الخلاصات دراسة متأنية. بريطانيا ديمقراطية علمانية ذات تقاليد مسيحية، ولكن أدياناً كثيرة أخرى توجد في بريطانيا أيضاً". واللافت أن الوزراء في الحكومة البريطانية يميلون إلى تحاشي المواضيع الدينية قدر المستطاع. ومما يذكر في هذا السياق أن توني بلير، رئيس الوزراء السابق، الذي فكر ذات يوم في أن يصبح قسا واعتنق الكاثوليكية بعد أن غادر مقر رئاسة الوزراء في 10 داونينغ ستريت، حاول إدخال عبارة دينية على مسودة أحد خطاباته حين كان في السلطة. ولكن "ألاستير كامبل"، مدير اتصالاته القوي، تدخل وقال له: "إننا لا نتعاطى في أمور الله!". وبدوره، نشأ "جوردون براون"، رئيس الوزراء الحالي، في بيئة دينية حيث كان والده قساً، لكن حكومته علمانية جداً. والواقع أن كل الأحزاب السياسية الكبيرة في بريطانيا تدعم وتؤيد مفهوم التنوع الثقافي والديني داخل مجتمع متعدد الأعراق. والحقيقة أنني أعتقد منذ سنوات أنه سيكون من الأفضل بالنسبة لبريطانيا وكنيسة انجلترا، لو أن هذه الأخيرة تخلت عن وضعها باعتبارها "الكنيسة الرسمية". فالظروف تغيرت، ولم يعد الدفاع عن هذا الوضع ممكناً اليوم. وشخصياً، أؤيد الموقف الذي أعرب عنه أمير ويلز الذي يريد أن يلقب، حين يصبح ملكاً، "حامي حمى الأديان" بدلاً من "حامي حمى الدين". بيد أن تراجع المسيحية في بريطانيا لا يخلو من عواقب عملية، والكثيرون قلقون اليوم بخصوص مستقبل كنائس البلاد القديمة والجميلة -وغير المستعملة.